لما كان المقصد الأسمى للجهاد في سبيل الله تعالى تعبيد الناس لرب العالمين برزت في تشريعاته جملة من المعاني السامية التي تشفّ عن هذا المقصد.
فمن ذلك الحرص على هداية الناس متجليًا في الدعاء لهم بالهداية، ودعوتهم قبل قتالهم.
ومنه ما جاء من النهي عن التمثيل بالقتلى، والاعتداء على النساء والصبيان والشيوخ، وهذه من صور الإحسان والرفق حال القتال.
ومنه الوصاية بالأسرى خيرًا، والإحسان إليهم في المعاملة، ترغيبًا لهم في الإسلام.
ويبقى الوفاء بالمواثيق والعهود وتحريم نقضها لغير سبب معلمًا بارزًا في الجهاد
المعانٍي السامية للجهاد في الإسلام
لما كان المقصد الأسمى للجهاد في سبيل الله تعالى تعبيد الناس لرب العالمين برزت في تشريعاته جملة من المعاني السامية التي تشفّ عن هذا المقصد.
فمن ذلك الحرص على هداية الناس متجليًا في الدعاء لهم بالهداية، ودعوتهم قبل قتالهم.
ومنه ما جاء من النهي عن التمثيل بالقتلى، والاعتداء على النساء والصبيان والشيوخ، وهذه من صور الإحسان والرفق حال القتال.
ومنه الوصاية بالأسرى خيرًا، والإحسان إليهم في المعاملة، ترغيبًا لهم في الإسلام.
ويبقى الوفاء بالمواثيق والعهود وتحريم نقضها لغير سبب معلمًا بارزًا في الجهاد
الحرص على هداية غير المسلمين:
ويتجلى ذلك في عدة صور منها:
أ- الدعاء لغير المسلمين بالهداية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: ((اللهم اهد دوسا وأت بهم))[1].
قال ابن بطال رحمه الله: "كان الرسول يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه"[2].
ب- دعوة العدو قبل قتاله:
عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: ((اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا… وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم))[3].
------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم (2937)، ومسلم في فضائل الصحابة (2524).
[2] شرح صحيح البخاري (5/114).
[3] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731).
--------------------------------------------------------------------------------
الرفق والإحسان حال القتال:
ويتجلى ذلك في عدة صور منها:
أ- النهي عن قتل كبار السن والنساء والصبيان:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)[1].
قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا قال جماهير: العلماء يقتلون"[2].
عن رباح بن ربيع رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء؟)) فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)).
قال: وعلى المقدّمة خالد بن الوليد، فبعث رجلا فقال: قل لخالد: ((لا يقتلن امرأة ولا عسيفًا))[3].
قال ابن حجر رحمه الله: "مفهومه: أنها لو قاتلت لقتلت، واتفق الجميع ـ كما نقل ابن بطال وغيره ـ على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء"[4].
عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا… ولا تقتلوا وليدا))[5].
وفي رواية: ((انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلُوا، وضمنوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين))[6].
ب- النهي عن المثلة:
عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا…ولا تمثلوا))[7].
عن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة)[8].
قال ابن حجر رحمه الله: "المثلة: بضم الميم وسكون المثلثة، وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها"[9].
قال الشوكاني رحمه الله: "قوله: ((ولا تمثلوا)) فيه دليل على تحريم المثلة "[10].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: قتل الصبيان في الحروب (3014)، ومسلم في الجهاد والسير (1744).
[2] شرح مسلم (12/48).
[3] أخرجه أحمد (3/488)، وأبو داود في الجهاد، باب: في قتل النساء (2669)، وابن ماجه في الجهاد، باب: الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان(2842). وصححه ابن حبان (4789)، والألباني في صحيح أبي داود (2324).
[4] فتح الباري (6/148).
[5] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731).
[6] رواه أبو داود في سننه برقم (2613)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2277).
[7] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731).
[8] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: النهبي بغير إذن صاحبه (2474).
[9] فتح الباري (6/23).
[10] نيل الأوطار (8/263).
--------------------------------------------------------------------------------
حسن معاملة الأسرى:
قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8].
قال قتادة قوله: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك"[1].
عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير قال: (كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالأسارى خيرًا)) وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم) [2].
وعن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق... ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد، يا محمد، فأتاه فقال: ((ما شأنك؟)) قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: ((هذه حاجتك))[3].
قال الشوكاني: "معنى قوله: ((هذه حاجتك)) أي حاضرة يؤتى إليها بها الساعة"[4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي[5].
قال النووي: "قوله: ((ما عندك يا ثمامة)) وكرر ذلك ثلاثة أيام هذا من تأليف القلوب، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير"[6].
قال ابن حجر: "في الحديث:المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل، وفيه: أن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وفيه: الملاطفة يمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير"[7].
------------------------------------------------------------
[1] أسنده الطبري في جامع البيان (29/209).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (22/393)، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (6/86).
[3] أخرجه مسلم في النذر (1641).
[4] نيل الأوطار (8/326).
[5] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير في المسجد (462)، ومسلم في الجهاد والسير (1764)، واللفظ له.
[6] شرح مسلم (12/89).
[7] فتح الباري (8/88).
--------------------------------------------------------------------------------
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم نقضها دون سبب:
يجب على المسلمين الوفاء بالمعاهدات المعقودة مع عدوهم مادامت مشروعة ولم تنته مدتها، أو ينقضها العدو.
قال الله تعالى: إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ [التوبة:4].
قال ابن العربي: "أمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته"[1].
وقال ابن قدامة: "وإذا عقد [أي الإمام] الهدنة لزمه الوفاء بها"[2].
--------------------------------------
[1] أحكام القرآن (2/888).
[2] المغني (10/520).
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع شبكة التربية الإسلامية الشاملة